ثقافة

طُرْبُكْ.. طُرْبُكْ

د. سعد الصالحي
 تتفنن والدتي بأناقتي طفلاً يرتاد الصف الأول في مدرسة كنعان الإبتدائية، حريصةً على قندرتي الملمعة وسترتي والبنطرون وشد الحزام الجلدي. أما الرباط الأحمر فلابد للوالد أن يعقده باهتمام شديد ليسرجني كحصان الريسز.
– إنت إبن الطبيب، لازم تبين أحسن الكل.
– زين ماما.
ننطلق هائجين بصراخنا بعد أن يدق جرس انتهاء الدرس الخامس، وأتسابق مع ابناء الفلاحين بدشاديشهم المقلمة حفاةً نحو دورهم الطينية خلف دارنا والمستوصف الوحيد في الناحية متعداً مع محمد وطارق لرحلتنا اليومية في البساتين المحيطة. أنزع عني مؤونة الحصان وألبس دشداشتي المقلمة قاذفاً بالحذاء والبدلة ومتمنطقاً الحزام فوقها، حافياً أركب صهوة عصاتي صارخاً بها (طربك طربك) نحو البستان، أهيج التراب تحت قدمي كذلك الفارس الأميركي المقنع في المسلسل اليومي.
أعود قبل غروب الشمس محملاً بباقات الرشاد والفجل والبصل الأخضر التي جنيتها صحبة محمد وطارق وقد ابيضَّ وجهي من غبرة الأرض ودميت قدماي من خوضنا في أشواك البراري. تصرخ أمي:
– ولك ليش هيجي.. ليش؟ مو إنت إبن الطبيب، ماعندك غيرة ؟ فوت إنزع الدشداشة وامشي كدامي للحمام. ساعة السودة اللي جينة بيهه لكنعان.
مررتُ بكنعان بعد أربعين عاماً. أبصرت مدرستي وقد تآكلتها السنون مغبرةً على شارعٍ الناحية الوحيد وقد أحاطها البردي اليابس وما عاد للبساتين أثر. أبحث عن محمد وطارق علَّنا نتسابق ثانية نحو بساتينَ أُخَر نجني منها الرشاد والفجل والبصل الأخضر.

Hits: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى