مقالات

صفقة القرن.. فلسطين بين اغتيال القضية واحتلال الأرض (1 – 3)

إبراهيم الهمداني | 

لا يمكن الحديث عن صفقة القرن في مستجداتها الراهنة وتطوراتها الحالية، دون الرجوع إلى امتداداتها التاريخية في الماضي، على الأقل منذ بداية القرن العشرين، وخصوصاً تلك الأحداث الفارقة، التي صنعت التحولات الكبرى في تاريخ الوطن العربي، ومسيرتهم النضالية التحررية  ضد الاستعمار، الذي منحهم استقلالا صورياً، وجعل عملاءه من الحكام العرب ينوبون عنه، وفي غمرة الاحتفال العربي بالاستقلال والانتصار المزعوم، كانت القوى الاستعمارية تنفذ أبشع وأحقر عملية اغتيال وجودي في التاريخ، بحق العرب والمسلمين عامة، حيث أعلنت بريطانيا عن وعد بلفور، الذي منحت بموجبه فلسطين وطناً قومياً لليهود، وعملت على استجلابهم من جميع أصقاع الأرض، وتوطينهم في فلسطين، ودعمت الكيان الصهيوني على كافة المستويات والأصعدة، ليكون خنجرها المغروس في خاصرة الوطن العربي، وطعنتها المُسددة في قلب المقدسات الإسلامية.
وكانت الخطوة الثانية هي إيجاد كيان وظيفي، تحت مسمى عربي وزعامة دينية، يقوم بتوجيه الرأي العام العربي والاسلامي، بما يخدم أمن ووجود الكيان الصهيوني، وكان ذلك الكيان الموازي، الذي اختارته بريطانيا للقيام بهذه المهمة، هو مملكة آل سعود، التي سعت منذ تأسيسها إلى  تنفيذ ذلك المخطط الاستعماري، والوفاء بالتعهد الخطي الذي قطعه عبد العزيز آل سعود لبريطانيا، بأن يعطي فلسطين لليهود، وأن لا يخرج عن رأي بريطانيا قيد أنملة، حتى تصيح الساعة، وذلك ما جسده حكام آل سعود، في مسلسل سياستهم التآمرية، ودورهم الخياني، ضد الشعوب العربية والإسلامية، واستهدافهم وجوداً وهوية، وإضعافهم خدمةً للكيان الصهيوني.
كان وعد بلفور عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، ورغم الجهود والمساعي الكبيرة، التي بذلتها بريطانيا، من أجل شرعنة الوجود اليهودي في فلسطين، بوصفه إرثاً تاريخياً تارة، وبكونه فرضاً دينياً، استحقوا بموجبه – كما يزعمون – دون غيرهم، الأرض المقدسة، تارة اخرى، وحين عجزت المزاعم والأساطير اليهودية، عن تبرير وتسويع ذلك الوجود الطارئ، والنبت الشيطاني في البيئة العربية الإسلامية، لجأت بريطانيا عبر – المنظومة الاستعمارية الكبرى – الأمم المتحدة إلى تصنيف ذلك الوجود الصهيوني الغاصب، في إطار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كطرفين ندين متساويين في معادلة الصراع الوجودي، بوصف إسرائيل أمراً واقعاً وحضوراً قائماً في الزمان والمكان، وضرورة حتمية فرضتها معطيات الواقع، والتعاطي معها من هذا المنظور يقتضي البحث عن تسويات سياسية منصفة، ومرضية للطرفين، واعتراف كل طرف بالآخر هو الخطوة الأولى، ونقطة الانطلاق في مسيرة حلحلة هذه القضية؛ وبشكل أو بآخر تم استدراج الطرف الفلسطيني للاعتراف بالغاصب المحتل الصهيوني، في حين رفض هذا الأخير/الطارئ المحتل، الاعتراف بالفلسطيني صاحب الأرض ومالكها الحقيقي عبر التاريخ.
رغم كل ذلك ، ورغم المؤامرات الدولية، وخيانات الأنظمة العربية الحاكمة، وفي مقدمتها النظام السعودي، وعملاء بعض الداخل الفلسطيني، إلاَّ أن الأيام والمواقف أثبتت أن عطاء من لا يملك، لم يتجاوز كونه حبراً على وورق، ووعداً فاقد المشروعية ابتداءً، وكذلك الأمر بالنسبة لما تمخض عنه الوجود الصهيوني، على مستوى لغة الخطاب الإعلامي والسياسي، حيث لم يتجاوز توصيفه الوجودي كونه اغتصاباً للحق واحتلالاً للأرض، ووجوداً طارئاً، لا تسنده مرجعية حضارية، ولا يدعمهُ امتداد تاريخي، ولا يقيمه أي مسوِّغ أو استحقاق.

وكما هو شأن الماسونية في تسخير الدول الاستعمارية الكبرى، لخدمة مخططاتها ومشاريعها، ودعم كيانها الصهيوني، وتعزيز الوجود اليهودي في الوطن العربي والإسلامي، والسعي نحو تمكينه من الغلبة والسيطرة، خاصة الوجود الصهيوني في فلسطين، استطاعت الماسونية – أيضا – تسخير الإدارة الأمريكية، خاصة منصب الرئاسة، لخدمة الكيان الصهيوني الغاصب، وذلك ما جسدته سياسات الإدارة/ الرئاسة الأمريكية، من خلال الرؤساء المتعاقبين، فكل رئيس أسهم بتنفيذ الجزء الخاص به، من مخطط اللوبي الصهيوني، ملتزما بتزمينه المحدد سلفا، والواقع والتاريخ يشهدان على عمق الدور الرسمي الأمريكي، في تنفيذ خطوات المشروع الصهيوني الاستعماري، سواء من خلال الدور الدبلوماسي، المتمثل في رعاية ما يسمى المفاوضات والمبادرات وخطط السلام والاتفاقيات، التي لم تنفذ أي منها، رغم إجحافها بحق الفلسطينيين، مستكثرة عليهم فتات الوطن، أو من خلال الدور السياسي، المتمثل في توظيف مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، بكل إمكاناتها وصلاحياتها ونفوذها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لخدمة الوجود الصهيوني، واستخدام حق الفيتو، لرفض كل القرارات الأممية الصادرة ضد الصهاينة الغاصبين، علاوة على سعي الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إلى تمييع القضية الفلسطينية، والانحراف بها عن مسارها الطبيعي، وصورتها الحقيقية – حيث هي مشروع نضال ومقاومة محتل، من أجل استعادة حق مغتصب – إلى مسار آخر، وصورة مخاتلة، لا تمت إلى صورتها وطبيعتها الأصلية بصلة، حيث جرى تصوير ما يحدث بوصفه صراعا عربيا إسرائيليا، ثم جرى تقزيمه وتحجيمه، لكي يفقد زخمه الجمعي/ العربي، ليصبح صراعا فلسطينيا إسرائيليا، وهذه هي إحدى صور الغزو الفكري، واغتيال الوعي في مفاهيمه، إذ يطرح الخبث الاستعماري من خلال حرب المصطلحات، وعيا مفاهيميا مزيفا، تبنى عليه معرفة مشوهة ومغلوطة، وهذه بدورها تؤسس بنية أيديولوجية للأجيال القادمة، التي سترضى بأنصاف الحلول، إن لم تتخلَ عن فلسطين كقضية، والقدس كهوية، نزولا عند مقتضيات المنطق، التي تضع الحلول وفقا لطبيعة المشكلة، فمادام ما يجري في فلسطين هو صراع، فمن غير المعقول الاستمرار في تقديم التضحيات المجانية، في مذبح الموت اللانهائي، والصراع العبثي، الذي مضى عليه سبعون عاما، دون حسم أو نتيجة تذكر، لذلك فإن من المنطقي إحلال السلام، من خلال تسوية سياسية، تفضي إلى إنهاء النزاع بما يرضي الطرفين، بينما لو تم توصيف ما يحدث في فلسطين، انطلاقا من واقعه وحقيقته، بوصفه احتلالا للأرض، واغتصابا وسلبا للحق، لكانت المقاومة والجهاد بالنفس والمال، لطرد المحتل ودحر الغازي، هي الحل الأمثل والأجدى، وفق مواضعات العقل والمنطق والواقع، لكن كلمة “الصراع” غيبت نصف الحقيقة، كما أن تحديد طرفي ذلك الصراع “فلسطيني/ إسرائيلي” قد اغتال ما تبقى من احتمالات الوعي، وإمكانيات معرفة الحقيقة، في الوعي الجمعي للأجيال القادمة، وكرست نهاية نمطية لذلك الصراع، حيث منحت الغازي المحتل الغاصب الصهيوني/ الإسرائيلي، حقا وجوديا ذا مرجعية تاريخية ودينية، من خلال تحقيق النسبة إلى إسرائيل/ إسحاق عليه السلام، وطالما جعل اليهود من دعوى انتسابهم تلك، مطية للوصول إلى أطماعهم ومصالحهم، وهيمنتهم الاستعمارية، وتعزيز نفوذهم واستبدادهم واستعباد الاخرين، وتبرير جرائمهم وتوحشهم بحق الشعوب الأخرى، وبذلك الانتماء المعزز بمرويات وأساطير يهودية، غطى الصهاينة قبح اغتصابهم، وشرعنوا لا مشروعية وجودهم، وبرروا جرائم القتل والتوحش والتهجير الجماعي، ومشاريع الإبادة والمحو بحق شعب بأكمله، على مرأى ومسمع من العالم، لأن القضية أصبحت قضية صراع، وليست قضية احتلال، وطرفا الصراع فيها هما فلسطيني واسرائيلي، وليس إسلامي ويهودي، كما هو في حقيقة الأمر.

Hits: 3

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى